القصة التراثية وأدب الطفل.. علاقة وثيقة وتأثير متواصل

تعتبر القصة من أكثر العوامل أهمية وتأثيرًا في التربية، ويعتمد عليها المربُّون في غرس قيم مبادئ متنوعة في نفوس الأطفال، بأسلوب غير مباشر، فالأطفال بطبيعتهم يفرحون لسماع القصص، والتي عادة ما تثير مشاعرهم وتدفعهم لتقليد أبطالها وأحداثها.

الحكايات الشعبية

والحكايات «السرد القصصي الذي يتناقله الناس» نوعٌ مهم من أنواع قصص الأطفال، وهي تختلف عن القصة بمفهومها الحديث، حيث إنها تكون ذات طابع شفهي مرتبط بالأدب الشعبـي، في حين أن القصة نتاج لكاتب فرد، وقد تكون مستمدة في بعض أنواعها من الحكاية والأسطورة، بحسب الكاتب السوري أحمد صوان.

ويشير كتاب «أدب الأطفال وثقافتهم» إلى أنه (أمكن القول إن كثيرًا من قصّاصي الأطفال، استمدوا من الحكايات الشعبية أفكار قصصهم، ولاقت تلك القصص هوىً في نفوس الأطفال، وسُعدوا بأبطالها الذين يتحرَّكون دون حواجز أو قيود، وأنسوا بالحيوانات التي تتصرَّف -في الغالب- تصرُّفًا إنسانيّا، وبالنباتات التي تتحرَّك وتطير وتضحك، وبالأدوات الجامدة التي تروح وتجيء وتقرع الطبول وتغني.. وأثارت هذه الحكايات مشاعر الأطفال وسط أجواء التضحية أو البطولة أو الصدق أو العدل، حيث ينتصر الخير والأخيار، ويُخذل الشر والأشرار ويندحرون أمام الخير وأبطاله).

كما أن قصص الحيوان، وأسلوب الأنسنة- حيث تتحرَّك الشخصيات في بيئة حيّة، تفكِّر وتتحدَّث كالبشر- تحظى بجاذبية كبيرة، وبإقبال لا يضاهى، من قبل جموع الأطفال، لاسيما في المرحلة المبكرة.

وتعدُّ قصص الحيوان من أقدم أنواع الحكايات الشعبية، وقد نهل منها كتّاب قصص الأطفال-كمادّة خصبة- الكثير ولا يزالون، ويعدُّ كتاب «كليلة ودمنة» من أهم ما كُتب في هذا المجال.

ويرى الكاتب العراقي جاسم محمد صالح، والذي شكل أدب الطفل محورًا في عطائه الأدبي، أن مسألة الاستفادة من الحكاية الشعبية في تربية الطفل، ليست حديثة العهد، فلقد جرت من قبل بعض المحاولات التي استهدفت هذا المجال، وأكدت بشكل لا يقبل الشك أن التراث الشعبي لأية أمة من الأمم، ولا سيما أمتنا العربية، يعد خير مصدر لاستلهام كثيرٍ من الأعمال الأدبية الراقية والهادفة والتي تصلح لأن تكون نماذج تربوية للأطفال، وذلك راجع لكثير من الاعتبارات، ومنها:

• أن التراث الشعبي العربي أصيل بشكله ومضمونه، وإنه أقرب الأشياء إلى نفس الإنسان ولا سيما الأطفال منهم.

• أنه تراث لكثير من الأحداث والحركات والانفعالات إضافة إلى امتلاكه خطاً درامياً لا مثيل له، خطاً يأسر القلوب ويشدّ الأنفس ويواصل الانجذاب.

التراث وأدب الأطفال.. علاقة قوية

وأشارت دراسة بعنوان: “استلهام التراث العربي في القصص الموجه للأطفال في الجزائر، ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة، نوادر جحا نموذجًا” للدكتور العيد جلولي، أستاذ الأدب العربي وعميد كلية الآداب واللغات بجامعة قاصدي مرباح بورقلة، والأستاذ المتخصص في أدب وثقافة الأطفال، إلى وجود علاقة قوية بين أدب الأطفال والتراث، تظهر في كل الأدب وعند جميع الشعوب والأمم، ففي بداية تشكل هذا الأدب في العصر الحديث، كان التراث هو المصدر الرئيسي في الكتابة للأطفال، فالتراث تعبير عن طفولة البشرية، وترجمة لتفكير المجتمعات الأولى، لهذا عُد التراث من أهم الينابيع التي رفدت هذا الأدب بمادة ثرية غنية لا تنضب، فقد أتاح التراث للأدباء أن يقتبسوا منه ما يشاؤون من الأشكال والموضوعات.

وفي التراث العربي أخبار البخلاء وطرائف الحمقى والمغفلين والأذكياء ونوادر جحا وأشعب وهبنقة وغيرها من الشخصيات الفكاهية، وفيه أيضاً كتب كان لها تأثيرها على الآداب العالمية ككتاب ألف ليلة وليلة وكتاب كليلة ودمنة وغيرهما.

ويؤكد جلولي أن هذا التراث الحافل بهذه الظواهر في حاجة إلى إعادة الصياغة والتوظيف والتبسيط ليكون في متناول المتلقي الصغير، وقيامنا بهذا يحقق مجموعة من المقاصد والأهداف نذكر منها:

1- تعريف الأطفال بتراثهم وببعض جوانب تاريخهم، خصوصًا في عهود الازدهار.
2- تعميق الانتماء القومي العربي الإسلامي لدى الأطفال، عن طريق الحكايات المستلهمة من هذا التراث، مما يدعم التمسك بالهوية القومية.
3- تقديم البطولات العربية من أجل غرس قيم الشجاعة في نفوس الأطفال.
4- تنمية الخيال لدى الأطفال، وربطهم بالماضي، وتعريفهم بمشاهير العلماء والأدباء.
وقد استعرضت دراسة الدكتور العيد جلولي استلهام التراث العربي في القصص الموجه للأطفال على النحو التالي:

استلهام “ألف ليلة وليلة” في القصص الموجه للأطفال

هو كتاب من أصل فارسي يدعى عند الفرس “هزار أفسانه” أي ألف خرافة، وقد عرفه العرب في القرن الثالث الهجري، وأضافوا إليه الشيء الكثير فاستقر على وصفه الأخير في القرن العاشر الهجري (القرن 16م) وطبع لأول مرة في كلكتا سنة 1814م، وترجم إلى معظم اللغات العالمية.

يضم الكتاب حكايات أسطورية عجيبة تختلف مصادرها، فبعضها من مصدر فارسي، وبعضها الآخر من مصدر عربي، كما تتنوع أمكنة حوادثها فبعضها يدور في بلاد فارس وبعضها الآخر في بغداد، وتدور أحداث أخرى في مصر، وأشهر هذه الحكايات حكاية علاء الدين والمصباح السحري، وعلي بابا والأربعين حرامي لصاً، ورحلات السندباد.

ويعدّ هذا الكتاب من أهم المصادر التراثية التي أثرت في أدب الأطفال في كثير من بلدان العالم فقد انطلقت منه آثار فنية خالدة، ففي الأدب العربي يعدّ كامل كيلاني رائدًا في هذا المجال فقد حاول الاستفادة من قصصه فاستلهم منها عشر قصص، منها “بابا عبد الله والدرويش”، و”أبو صير وأبو قير”، و”علي بابا”، و”عبد الله البري”، و”عبد الله البحري”… وغيرها. 

وقد أشاد به الكثير من النقاد والأدباء، وفي طليعتهم الأديب زكي مبارك الذي قال عنه: “وفي رأينا أن خير مشروعاته هو استغلال كتاب ألف ليلة وليلة وتحويله إلى قصص صغيرة يلهو بها الناشئون، وقد وصل في صقل كتاب ألف ليلة وليلة إلى ابعد الغايات إذ وضعه في أسلوب سهل ممتنع يفهمه الصغار ويستجيده الكبار”.

وتعود أهمية الكتاب إلى شخصيات قصصه وحكاياته، فشخصيات السندباد وعلاء الدين وعلي بابا تمتلك طاقات إحصائية قوية جعلتها ذائعة مشهورة، فوظفت في أدب الأطفال لتناسبها مع مستوياتهم من جهة ولتحقيق غايات تربوية وترفيهية من جهة ثانية.

وفي الكتاب متعة وتسلية، وقصصه العجيبة تنمي فكر الأطفال، وتستثير خيالهم، وتزودهم بكثير من المبادئ والقيم، وتعينهم على مواجهة الحياة. وبالإضافة إلى كل ذلك، يحتوي الكتاب على قيم متنوعة تاريخية وأخلاقية وأدبية. 

ومع كل هذا، فالمتعامل مع هذا الكتاب في مجال أدب الأطفال ينبغي أن يتسلح بحاسة تربوية؛ لأنه لا يخلو من آثار سلبية قد لا تناسب الأطفال كقصص السحر والأعمال الخارقة، وبعض الحكايات التي تميل إلى نوع من الخلاعة؛ لأن مثل هذه الأعمال توهم الطفل أن حل المشكلات لا يكون إلا عن الطرائف السحر والغيبيات، وأن الميل إلى الخلاعة أمر مشروع ومقبول، وكل هذا يرسب في نفسه التعلق بالمستحيل والاعتماد على الوهم.

استلهام “كليلة ودمنة” في القصص الموجه للأطفال

كليلة ودمنة من أشهر الكتب التراثية، ومع شهرته اختلف الدَّارسون حول أصله، إذ يذهب البعض إلى أن ابن المقفع وضعه ثم ادَّعى أنه ترجمه ليبعد عنه ما ورد فيه من أفكار يتأذَّى منها الحكام، ويذهب البعض الآخر إلى أن الكتاب هندي الأصل تُرجم إلى الفارسية القديمة، إذ ألفه الحكيم الهندي (بيدبا الفيلسوف) من أجل الملك الهندي (دبلشيم)، ثم ترجمه ابن المقفع من الفارسية إلى اللغة العربية.

وقد سُمِّي الكتاب باسم أخوين من بنات آوى هما: (كليلة) و(دمنة)، وقصصهما وردت في بابين من الكتاب: باب الأسد والثور، وباب الفحص عن أمر دمنة، وأما بقية الأبواب فلا علاقة لهما بها.

لون مع نوري | كليلة ودمنة: قصة السائح والصائغ

والكتاب في عمومه لا يعدو كونه قصصًا أخلاقية تدعو إلى مكارم الأخلاق، وتنصح الملوك بمثل ذلك، ليظل حكمهم ثابت الأركان، قائم البنيان، وهذه القصص فيها من المعاني الإنسانية والإرشادات الفلسفية، والمثل الأخلاقية، مما يجعلها من الآثار الخالدة.

كما كان للكتاب تأثير في العصر الحديث، ولعل أبرز جوانب هذا التأثر هو استلهام قصصه وحكاياته في أدب الطفولة، ويعد أحمد شوقي وعثمان جلال وإبراهيم العرب وكامل كيلاني وأحمد نجيب روادًا في هذا المجال، فقد نهلوا من قصص وحكايات هذا الكتاب قصصاً موجهة للأطفال.

وأهم ما في الكتاب بالنسبة للأطفال هو أن قصصه وضعت على ألسنة البهائم والطير، فالحيوانات تقوم بدور البطولة فيه، لا سيما تلك الحيوانات التي تعيش مع الإنسان أو بالقرب منه، وكلنا يعرف ميل الأطفال لعالم الحيوان، فهم يحبون ملاعبة الحيوان ولهم شغف كبير للاستمتاع بقراءة ومشاهدة وسماع قصصها.

استلهام “نوادر جحا وحكاياته” في القصص الموجهة للأطفال

يرى كامل كيلاني أن شخصية جحا الذي عرفه الكبار والصغار، ويتندر بأحاديثها وفكاهتها سائر الناس على اختلاف ثقافاتهم، شخصية حقيقة عاشت في القرن الثاني من الهجرة، واسمها الحقيقي هو أبو الغصن وجيه بن ثابت الملقب بجحا.

وما إن ظهرت هذه الشخصية على مسرح الحياة الشعبية حتى أعجب الناس بطرافتها وملحها ونوادرها، واشتد إعجابهم بها؛ فخلعوا لقب (جحا) على كل عجيب من القول، وطريف من الحديث، وأصبح للقصص “الجحوي” خصائصه وسماته.

كما تعددت انتماءات جحا، فهناك جحا العربي واسمه أبو الغصن وجيه بن ثابت، وهناك جحا التركي المسمى بنصر الدين الرومي، كما أن هناك جحا الليبي والمصري وهكذا، واتساع الانتماءات وتعددها، واختلاف الشخصية وتناقضها، مقترن بالغايات والأهداف التي من أجلها وظفت شخصية جحا، فقد تكون الغاية تحقيق الفكاهة أو النقد الاجتماعي أو النقد السياسي وهكذا.

وقد وجد كُتّاب أدب الأطفال في النموذج الجُحَوي مادة خصبة لإضحاك الأطفال، وإدخال المسرَّة على قلوبهم، والترويح على نفوسهم، فقدموا في هذا المجال عشرات القصص المستلهمة من نوادر جحا، كما وردت في كتب التراث المختلفة، ومن أوائل من كتب في نوادر جحا للأطفال محمد الهراوي، وكامل كيلاني، ثم جاء بعدهما عبد العزيز بيومي ويوسف سعد وغيرهما.

المراجع:

أدب الأطفال وثقافتهم. المؤلف. د. قدرية محمد البشري د. سماح الخالدي د. ناريمان لهلوب

استلهام التراث العربي في القصص الموجه للأطفال في الجزائر، ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة، نوادر جحا نموذجًا (مجلة الموقف الأدبي)، سورية، العدد 400، السنة 2004.